محاكمات شهيرة... شغلت الرأي العام
حادث المنشية... «إخوانية» فاشلة لاغتيال ناصر / 11
محمد مهدي عاكف
علي نويتو
محمد نجيب راغب
جمال عبدالناصر
|القاهرة - من حنان عبد الهادي|
كثيرة جدا... هي المحاكمات التي شغلت الرأي العام - محليا وعالميا - واهتمت وسائل الإعلام بجميع أطيافها بنقل تفاصيلها ووقائعها لحظة بلحظة، ولا تزال باقية في الذاكرة حتى الآن... بسبب ملابساتها المعقدة، أو أسماء المتهمين المتورطين في ارتكابها، أو نتائجها الصعبة والمؤثرة.
وهذه النوعية من المحاكمات تتعلق بقضايا ساخنة وغير مألوفة، وتتشابك فيها التفاصيل، وتتوه معها الحقائق، وتضل العدالة أحيانا طريقها في البداية، ولكن بعد قيام الأجهزة المعنية بأدوارها... تظهر الحقيقة في النهاية، وينال المجرم جزاءه ويجني ثمار ما اقترفت يداه.
والقضايا التي تشغل الرأي العام... هي القضايا التي يروح ضحيتها أعداد كبيرة من البشر «حادث العبارة السلام - 98 في مصر... نموذجا»، ويكتنف تفاصيلها غموض يستغرق جهودا مضنية لفك شفرته، أو التي تشهد وحشية غير مقبولة من الجناة، أو التي توصف بأنها سياسية «محاكمة المقبور صدام حسين»، أو التي تتعلق بإهدار مبالغ هائلة من المال العام «محاكمة نواب القروض في البرلمان... نموذجا»، أو تخص مسؤولا مرموقا «محاكمة محافظ الجيزة الأسبق في مصر أيضا».
وعبر 15 حلقة... نرصد أشهر 15 قضية شغلت الرأي العام محليا وعربيا ودوليا، وننشر أهم تفاصيل محاكماتها من واقع ملفات القضايا أو من أرشيف المطبوعات والإصدارات التي تابعت تلك القضايا، أو عبر المواقع الألكترونية، وبقيت شاهدا عليها حتى تعاقبت السنون.
وتتنوع هذه المحاكمات بين ما هو محلي مثل: قضايا العبارة السلام - 98، التي راح ضحيتها أكثر من 1000 مصري فقير... أو سياسي مثل «محاكمة الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام»، أو دولية مثل: «محاكمة المقبور صدام حسين» على جريمة الإبادة البشرية في قرية الدجيل، أو المحاكمة الخاصة بالطائرة البريطانية التي اتهم ليبيان بإسقاطها فوق بلدة لوكيربي الأسكتلندية.
وسنعرض تلك المحاكمات بدءا من أول جلسة مرورا بجميع التفاصيل الدقيقة، وصولا إلى إصدار الأحكام النهائية، بكل حيادية وموضوعية، ومن واقع أوراق تلك القضايا والمحاكمات.
أثناء إلقاء الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر خطابه في 22 أكتوبر 1954... دبرت محاولة اغتيال فاشلة للرئيس بميدان المنشية في مدينة الإسكندرية «220 كيلو متر شمال غرب العاصمة المصرية»، قام بها مجموعة انتحارية مكونة من «محمود عبداللطيف وهنداوي سيد أحمد الدوير ومحمد علي النصيري وخليفة عطوة»، والخلية تنتمي إلى - الإخوان المسلمين - «المحظورة قانونا في مصر»، وفي هذه الأثناء تم توقيف عطوة وزميله أنور بواسطة البوليس الحربي، وتم تقديم الخلية للمحاكمة العسكرية، وحكم عليهما بالإعدام، لكن تم تخفيف الحكم بعد أيام إلى «25» سنة بناء على قرار من عبدالناصر، تلك المحاكمة شغلت كثيرا الرأي العام المصري حتى إنهم كانوا يترقبون أخبار الجناة، وما الذي دفعهم إلى القيام بهذه الجريمة.
خلية انتحارية
هنا يذكر المتهم السادس في محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر المتهم خليفة عطوة أن «التعليمات صدرت بتنفيذ مهمة عاجلة العام 1954، وتم تقديم مجموعة انتحارية تضم «محمود عبداللطيف وهنداوي سيد أحمد الدوير ومحمد علي النصيري»، حيث كان مخططا أن يرتدي حزاما ناسفا يحتضن عبدالناصر وينسفه إذا فشل محمود عبداللطيف في الضرب، وأنا وأنور حافظ على المنصة بصفتنا من حراس الثورة، ونقوم بتوجيه محمود عبداللطيف، والإشارة له بتنفيذ خطة اغتيال عبدالناصر».
وأعطى خليفة عطوة - بحسب ما ورد في نصوص التحقيقات - إشارة البدء لمحمود عبداللطيف، عندما كان جمال عبدالناصر يخطب في المنشية بالإسكندرية، تلك المحاولة أخطأت هدفها، حيث مرت أول رصاصة من تحت إبط عبدالناصر، واخترقت الجاكيت العسكري الفضفاض الذي كان يرتديه، واصطدمت بقلم حبر في جيبه، ونجا منها بمعجزة، بينما مرت الرصاصة الثانية بجوار كتفي جمال سالم وعبدالحكيم عامر، واستقرت في رأس الميرغني حمزة زعيم الطائفة الختمية بالسودان، وأحد ضيوف الحفل ليلقى مصرعه في الحال.
شجاعة نادرة
كما أكد خليفة عطوة أنه في ذلك الوقت حدث شيء غريب... حيث اندفع جمال عبدالناصر إلى سور المبنى للأمام بدلا من أن يختبئ، وصرخ فيهم ليبقَ كل في مكانه، وهنا وبطريقة عفوية واستجابة لا شعورية لهذه الشجاعة - حسبما قال عطوة - وجدت نفسي أحتضن عبدالناصر، أنا وأنور حافظ شريكنا في الخطة، وأخذت ألوح لمحمود عبداللطيف أن يتوقف عن الضرب، وكان يتسلق وقتها تمثال سعد زغلول المواجه لشرفة مبنى بورصة القطن، لكنه واصل إطلاق النار. حيث أطلق رصاصة أصابت كتف أحمد بدر سكرتير هيئة التحرير في الإسكندرية أردته في الحال، وأطلق بقية الرصاصات في النجف والصيني الموجود في السقف وأمام المنصة.
شاهد ملك
بعدها نزل الرئيس عبدالناصر وتوجه إلى جامعة الإسكندرية ليواصل خطبته، وفي هذه الأثناء تم توقيف عطوة وزميله أنور بواسطة البوليس الحربي، أما هنداوي الدوير المشرف على العملية عندما علم بفشل خطة اغتيال عبدالناصر ذهب كشاهد ملك إلى قسم باب شرق الإسكندرية وأبلغ عن المجموعة، وتم تقديمهم للمحاكمة العسكرية.
ووفق رواية خليفة عطوة: «عندما تم تقديمنا للمحاكمة العسكرية، وحكم علينا بالإعدام في 17 نوفمبر 1954، لكن تم تخفيف العقوبة عنا بعد أيام من صدور الأحكام في القضية، بعد نحو 15 يوما من السجن أبلغونا أن عبدالناصر أصدر قرارا بتخفيف العقوبة إلى 25 سنة، وبعدما أخبرونا بتخفيف العقوبة أخذوني أنا وأنور وفي أيدينا الحديد من السجن داخل «سيارة جيب»، فوجئنا بوقوفها أمام مبنى قيادة الثورة... دخلنا المبنى وسرنا في ممر طويل ووقفنا أمام غرفة، وأمرنا الضابط المرافق لنا أن ننتظر قليلا أمام الغرفة، ثم أمرنا بدخول غرفة شبه مظلمة ويوجد بها منضدة حولها كراسي ومكتب في أحد الأركان عليه أباجورة ضوؤها خافت، ولم يكن هناك بها سوى شخص يرتدي الزي العسكري يتفحص عشرات الصور أمامه، ولا ينظر إلينا ونحن واقفين أمامه».
وأضاف عطوة: «ظللنا على هذه الحالة لأكثر من 10 دقائق من الانتظار، إلى أن اكتشفنا أن الضابط الجالس على المكتب هو جمال عبدالناصر، وأخذ يسألنا عن أسمائنا.
وقال لنا: هل كنتما فعلا مكلفين باغتيالي؟ لقد قرأت أقوالكما في محاضر التحقيق وجلسات المحكمة، ثم سأل عن الدوافع الحقيقية للاشتراك في عملية اغتياله فكانت الإجابة بصوت مرتعش «يافندم فهمونا إنك خائن بتوقيعك معاهدة الجلاء»، وقال إنه ظل يستمع إليهما في صبر وسكون حتى النهاية.
إفراج
وعندما انتهيا بدأ في الكلام وحوله دوافعه من وراء توقيع الاتفاقية ، وبعد لحظات أمر بإحضار طعام لهما، وكان عبارة عن «سندوتشات فول وطعمية»، وتناولاه في ذهول، ووفق ما قاله عطوة إن عبدالناصر أمر الضباط بأن يأخذوهما وسارت السيارة في شوارع القاهرة، وكانا يظنن أنهما عائدان للسجن الحربي، لكن وجدا أنفسهما في محطة قطارات الزقازيق «85 كيلو مترا شرق العاصمة المصرية» وصاح بهما الضابط: انزل أنت وهو لقد أصدر الرئيس جمال عبدالناصر أوامره بالإفراج عنكما، وفي اليوم التالي خرجت الصحف تحكي قصتهما وخبر الإفراج عنهما، وكيف تحولا من مشاركين في محاولة اغتيال عبدالناصر إلى حماة له وتصديا لرصاصات زميلهما محمود عبداللطيف.
اعتكاف الهضيبي
قبل الحادث بشهر اعتكف مرشد الإخوان - آنذاك - الهضيبي، ولم يكن يعرف مكانه إلا القليلون، وقد فسر هو لناصر في رسالته بعد الحادث ذلك الاختفاء، بأنه كان خوفا من وقوع حوادث مؤسفة، وفسر المؤرخ يونان لبيب رزق ذلك بأنها لم تكن المرة الأولى التي يختفي فيها الهضيبي فقد كان يعتكف أو يختفي لكن عندما اختفى هذه المرة قالوا إنه كان يعرف أنه ستحدث عملية اغتيال عبدالناصر فاختفى.
وعن الخطاب الذي أرسله الهضيبي لجمال عبدالناصر قال الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل «الأستاذ الهضيبي بعث جوابا لجمال عبدالناصر كتبه له من القاهرة وهو جاي من الإسكندرية وبيقولوا فيه - قبلها كان بعت له جواب شديد جدا في شأن الجلاء، وفي شأن معارضة اتفاقية الجلاء - أنا مش مختفي ولا حاجة، وبيقول له: السيد جمال عبدالناصر رئيس مجلس الوزراء السلام عليكم الحمد لله تعالى أحمد الله إليكم وأصلي وأسلم على رسوله الكريم، وبعد، فقد وجدت نفسي في أثناء قدومي من الإسكندرية أمس محاطا بمظاهر توصي بأن الحكومة تتوقع قيام الإخوان المسلمين بحركة ربما كانت لأخذي عنوة وأنا أبادر فأقول إن ما تسميه اختفاء قد أدهشني وأنه - أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم - أنني ما علمت بوقوع جريمة الاعتداء عليك إلا في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، ولو كان لي بها علم وقد وقعت في نفس موقع الصاعقة لأني ممن يعتقدون أن الاغتيالات، تؤخر حركة الإخوان وتؤخر الإسلام والمسلمين، وتؤخر مصر، وقد كنا بحثنا هذه المسألة في الجماعة منذ زمن بعيد، واستقر رأينا على ذلك، وأخذنا نوجه الشباب».
اعتراف
اعترف محمود عبداللطيف بأنه هو الذي أطلق الرصاصات الثماني على عبدالناصر، كما تعرف على المسدس الذي عثر عليه بعد الحادث بأيام، وأمام محكمة الشعب - التي انشئت مع ثورة يوليو - قدم عبداللطيف اعترافات مفصلة بأن هنداوي الدوير رئيسه في التنظيم السري بإمبابة «منطقة شعبية تقع شمال غرب القاهرة» هو الذي حرضه على قتل عبدالناصر، وأنه سلمه المسدس قبل الحادث بيومين، وكان قد شرح له ولزميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبدالناصر أن اتفاقية الجلاء التي وقعها جمال عبدالناصر مع الإنكليز في 19 من أكتوبر 1954 هي خيانة للبلد.
أما هنداوي الدوير فقد سلم نفسه للشرطة صباح اليوم التالي، واعترف أمام محكمة الشعب أن إبراهيم الطيب، المسؤول عن التنظيم السري في القاهرة هو من أعطاه الأوامر، وسلمه المسدس، وأكد له أن الأوامر صادرة من المرشد ذاته، وداخل السجن تم عزل محمود عبداللطيف وهنداوي عن باقي الجماعة، وتلقيا معاملة مختلفة، وخاصة هنداوي. حيث يصف أحد شهود العيان أنه كان في - عزل تام - فقد وضع في زنزانة بمفرده، وكان يدخن سجائر في الزنزانة، وأن كل السجناء في السجن الحربي شاهدوه وهو يجلس في «جنينة صغيرة»، وأيضا كانوا يحضرون له الشاي، وكان يجلس معه الصحافيون الأجانب.
مش ده اللي اتفقنا عليه
وبعد محاكمة هنداوي ذكر سجين حربي رافقه - اسمه محمد فريد عبدالخالق - أنه سمعه وهو داخل القلعة مع اثنين من الإخوان، وكان يتحدث بصوت عال، وهيستيري، وكانت تلك الأيام مع اقتراب الحكم في القضية، وكان هنداوي في حالة ذهول فقد أصيب بخيبة أمل كبيرة، وسمع داخل المعتقل وهو ذاهب لزانزانته، وكان يقول بصوت عال «مش ده اللي اتفقنا عليه»، لأنه عندما سلم نفسه قيل له إنه بيلعب دور شاهد ملك، ولن تصدر ضده أحكام، لكن الأمر حدث عكس ما قيل له.
ووفقا لاعترافاتهم - هنداوي ومحمود عبداللطيف - كانت إمبابة هي مركز التنظيم السري بشكله الجديد، وفيها كان يسكن عبداللطيف وهنداوي وسعد حجاج، وعلي نويتو وأحمد نجيب وغيرهم، وكان بها أيضا ورشة عبداللطيف ومحل نجيب ومكتب هنداوي، كما أفادت اعترافات المنتمين إلى تنظيم إمبابة بأن التنظيم السري بشكله الجديد تكوّن خلال الاشهر الأربعة أو الخمسة التي سبقت الحادث، وجاء في اعترافات هنداوي بأن إمبابة استضافت الضابط الإخواني عبدالرؤوف بعد هروبه من محاكمته العسكرية في مايو 1954، وأنهم استفادوا من خبرته العسكرية، وأدخلوا تعديلا جديدا على التنظيم السري.
أما مذكرات عبدالمنعم عبدالرؤوف، التي نشرها بعد هروبه خارج مصر تسرد فترة اختبائه في إمبابة، ويؤكد فيها لقاءه بهنداوي ونويتو والطيب ويوسف طلعت ومحمد مهدي عاكف وغيرهم، وذلك ما سرده أيضا علي عبدالفتاح نويتو في أحد حواراته حيث قال: كان عندي عبدالمنعم عبدالرؤوف وكان عبدالناصر راصدا «5» آلاف جنيه لكل من يدل على مكانه. أما من يعرف ولا يدل على ذلك فإن رقبته سوف تقطع.
وكان عبدالرؤوف عندي وبقي عندي لمدة 15 يوما، في حين نجد ان إبراهيم الطيب قال: إن عبدالمنعم عبدالرؤوف بعدما هرب تولى الإشراف على الجهاز السري في الإخوان، ونزل في إمبابة في بيت هنداوي دوير - الذي كان يخطط لعملية اغتيال جمال عبدالناصر في المنشية - أي أنه شارك - بشكل أساسي - في عملية الاغتيال التي نفذت في المنشية، وكان المخطط الأول عبدالمنعم عبدالرؤوف.
أما المخطط الثاني فهو إبراهيم الطيب - الذي يتولى التنظيم في القاهرة - أما المخطط الثالث فهو هنداوي دوير- المحامي بمنطقة إمبابة - والذي يتولى تنظيم إمبابة - أما الشخصية الرابعة في التخطيط فهو محمود عبداللطيف، الذي كلف بعملية إطلاق النار على جمال عبدالناصر.
اعتقال الضباط الأحرار
اعترف هنداوي دوير بأن إبراهيم الطيب أبلغه قبل الحادث بـ «15» يوما أن التنظيم السري، قرر أن يعتدي على جمال عبدالناصر، ويتخلص من الضباط الأحرار باعتقالهم أو خطفهم، وأنه قد انتخب محمود عبداللطيف لهذه المهمة، واتخذ جمال عبدالناصر من حالة محمود عبداللطيف - محور الخطاب - الذي وجهه في ميدان الجمهورية بعد حادثة المنشية.
وفي 29 أكتوبر العام1954 خطب الرئيس جمال قائلا: «محمود عبداللطيف الرجل الفقير اللي إحنا بنعمل من أجله ونضيع وقتنا كله من أجله ومن أجل أولاده ومن أجل مستقبله ومن أجل مستقبل أولاده بنعمل جميعا عشان نزيح عنه الفقر وعشان نوفر لأولاده التعليم والصحة ومستوى معيشة أحسن من اللي إحنا ماقدرناش نتمتع بها، كان الهضيبي باسم الدين وباسم الإسلام يبث في نفسه الحقد ويبث في نفسه الضغينة ويبث في نفسه البغضاء».
وقد اعترف محمود عبداللطيف أمام محكمة الشعب بأنه غادر منزله صباح السادس والعشرين من أكتوبر فمر على زميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبدالناصر، والذي أبدى أسفه لعدم تحضيره سلاحا فودعه محمود وسافر بمفرده، ويوم عادت المنشية ذكر محمد نجيب راغب أنه شاهد محمود عبداللطيف.
وقابله في الصباح الباكر قبل سفره، وكان مع نجيب راغب سعد حجاج، وقال سعد لنجيب: إنه ذاهب إلى الإسكندرية، وكان سعد يعرف أن نجيب سيذهب للإسكندرية، وأن المجموعة كانت مقسمة لكن معروف أن سعد دائما يذهب إلى أي مكان فيه جمال عبدالناصر، وكان كل فرد من المجموعة معه سلاح فكلهم كانوا مدربين ومعهم أسلحة لأنهم في نظام خاص.
إحالة على التقاعد
وفي ديسمبر من العام 1953 أحيل الضابط الإخواني عبدالمنعم عبدالرؤوف إلى التقاعد، ويقول إنه التقى الهضيبي وقتها، وأن الهضيبي كلف بتنظيم، وتدريب النظام الخاص، وكان الهضيبي على خلاف دائم مع رئيس النظام الخاص عبدالرحمن السلبي، وتصاعد الخلاف في ديسمبر 1953 إلى حد أن الهضيبي أقال السلبي و«3» من مساعديه منهم أحمد عادل كمال، وبعد الانفصال وبعد أن قبض على الإخوان عادوا يفكرون في عمل تنظيم سري ثان، وكان مسؤولا عنه يوسف طلعت، وقد رشحه محمد فرغلي، الذي زار عبدالناصر في مكتبه بوزارة الداخلية أواخر 1953، وطلب عبدالناصر منه أن يحل الإخوان التشكيلات السرية في الجيش، والشرطة، والجهاز الخاص.
فكرة عاكف
في حين نجد أن المرشد العام للإخوان - الآن - محمد مهدي عاكف يعترف أنه صاحب فكرة النظام الجديد، وهو نظام الفصائل كي يدربه الإخوان المسلمون في معسكرات الحرس الوطني بطريقة منظمة فتبقى كل شعبة عندها فصيلة وفية - كما قال في المحكمة - نظام سري يتكون من 40 فردا، وكنت أنا رئيس التنظيم وليس يوسف طلعت، أما يوسف طلعت فكان في التنظيم القديم.
وانتهت أحكام محكمة الشعب في قضية حادثة المنشية إلى الآتي: حكم على محمد مهدي عاكف بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم عنه إلى المؤبد، وقضى فترة السجن من العام 1954 حتى أفرج عنه في العام 1974، وحكم بالإعدام أيضا على الإخواني علي عبدالفتاح نويتو، ثم تم تخفيض الحكم عنه إلى المؤبد، وقضى فترة السجن من 1954 وحتى 1974، أما محمد نجيب راغب فكان الحكم عليه بالبراءة، لكنه قضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، وعلي أحمد عادل كمال أيضا قضت المحكمة بالبراءة، لكنه قضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، وعلي محمد فريد عبدالخالق حكم عليه بالسجن 10 سنوات مع إيقاف التنفيذ، وقضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، كما واجه محمود عبداللطيف وهنداوي دوير حكم الإعدام.
ويعد حادث المنشية - احدى أكبر الجرائم والمحاكمات السياسية إثارة للجدل في تاريخ مصر الحديث - انتهت التحقيقات الرسمية وأغلقت الملفات، وأصدرت محكمة الشعب - التي شكلتها الثورة - أحكامها، فنجا من نجا وأعدم من أعدم وواجه المئات مصائرهم ما بين السجن والبراءة، وبالرغم من مضي أكثر من «50» عاما على تلك الحادثة،. لكن لايزال الخلاف قائما وعلى أشده حول حقيقة ما جرى.
كثيرة جدا... هي المحاكمات التي شغلت الرأي العام - محليا وعالميا - واهتمت وسائل الإعلام بجميع أطيافها بنقل تفاصيلها ووقائعها لحظة بلحظة، ولا تزال باقية في الذاكرة حتى الآن... بسبب ملابساتها المعقدة، أو أسماء المتهمين المتورطين في ارتكابها، أو نتائجها الصعبة والمؤثرة.
وهذه النوعية من المحاكمات تتعلق بقضايا ساخنة وغير مألوفة، وتتشابك فيها التفاصيل، وتتوه معها الحقائق، وتضل العدالة أحيانا طريقها في البداية، ولكن بعد قيام الأجهزة المعنية بأدوارها... تظهر الحقيقة في النهاية، وينال المجرم جزاءه ويجني ثمار ما اقترفت يداه.
والقضايا التي تشغل الرأي العام... هي القضايا التي يروح ضحيتها أعداد كبيرة من البشر «حادث العبارة السلام - 98 في مصر... نموذجا»، ويكتنف تفاصيلها غموض يستغرق جهودا مضنية لفك شفرته، أو التي تشهد وحشية غير مقبولة من الجناة، أو التي توصف بأنها سياسية «محاكمة المقبور صدام حسين»، أو التي تتعلق بإهدار مبالغ هائلة من المال العام «محاكمة نواب القروض في البرلمان... نموذجا»، أو تخص مسؤولا مرموقا «محاكمة محافظ الجيزة الأسبق في مصر أيضا».
وعبر 15 حلقة... نرصد أشهر 15 قضية شغلت الرأي العام محليا وعربيا ودوليا، وننشر أهم تفاصيل محاكماتها من واقع ملفات القضايا أو من أرشيف المطبوعات والإصدارات التي تابعت تلك القضايا، أو عبر المواقع الألكترونية، وبقيت شاهدا عليها حتى تعاقبت السنون.
وتتنوع هذه المحاكمات بين ما هو محلي مثل: قضايا العبارة السلام - 98، التي راح ضحيتها أكثر من 1000 مصري فقير... أو سياسي مثل «محاكمة الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام»، أو دولية مثل: «محاكمة المقبور صدام حسين» على جريمة الإبادة البشرية في قرية الدجيل، أو المحاكمة الخاصة بالطائرة البريطانية التي اتهم ليبيان بإسقاطها فوق بلدة لوكيربي الأسكتلندية.
وسنعرض تلك المحاكمات بدءا من أول جلسة مرورا بجميع التفاصيل الدقيقة، وصولا إلى إصدار الأحكام النهائية، بكل حيادية وموضوعية، ومن واقع أوراق تلك القضايا والمحاكمات.
أثناء إلقاء الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر خطابه في 22 أكتوبر 1954... دبرت محاولة اغتيال فاشلة للرئيس بميدان المنشية في مدينة الإسكندرية «220 كيلو متر شمال غرب العاصمة المصرية»، قام بها مجموعة انتحارية مكونة من «محمود عبداللطيف وهنداوي سيد أحمد الدوير ومحمد علي النصيري وخليفة عطوة»، والخلية تنتمي إلى - الإخوان المسلمين - «المحظورة قانونا في مصر»، وفي هذه الأثناء تم توقيف عطوة وزميله أنور بواسطة البوليس الحربي، وتم تقديم الخلية للمحاكمة العسكرية، وحكم عليهما بالإعدام، لكن تم تخفيف الحكم بعد أيام إلى «25» سنة بناء على قرار من عبدالناصر، تلك المحاكمة شغلت كثيرا الرأي العام المصري حتى إنهم كانوا يترقبون أخبار الجناة، وما الذي دفعهم إلى القيام بهذه الجريمة.
خلية انتحارية
هنا يذكر المتهم السادس في محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر المتهم خليفة عطوة أن «التعليمات صدرت بتنفيذ مهمة عاجلة العام 1954، وتم تقديم مجموعة انتحارية تضم «محمود عبداللطيف وهنداوي سيد أحمد الدوير ومحمد علي النصيري»، حيث كان مخططا أن يرتدي حزاما ناسفا يحتضن عبدالناصر وينسفه إذا فشل محمود عبداللطيف في الضرب، وأنا وأنور حافظ على المنصة بصفتنا من حراس الثورة، ونقوم بتوجيه محمود عبداللطيف، والإشارة له بتنفيذ خطة اغتيال عبدالناصر».
وأعطى خليفة عطوة - بحسب ما ورد في نصوص التحقيقات - إشارة البدء لمحمود عبداللطيف، عندما كان جمال عبدالناصر يخطب في المنشية بالإسكندرية، تلك المحاولة أخطأت هدفها، حيث مرت أول رصاصة من تحت إبط عبدالناصر، واخترقت الجاكيت العسكري الفضفاض الذي كان يرتديه، واصطدمت بقلم حبر في جيبه، ونجا منها بمعجزة، بينما مرت الرصاصة الثانية بجوار كتفي جمال سالم وعبدالحكيم عامر، واستقرت في رأس الميرغني حمزة زعيم الطائفة الختمية بالسودان، وأحد ضيوف الحفل ليلقى مصرعه في الحال.
شجاعة نادرة
كما أكد خليفة عطوة أنه في ذلك الوقت حدث شيء غريب... حيث اندفع جمال عبدالناصر إلى سور المبنى للأمام بدلا من أن يختبئ، وصرخ فيهم ليبقَ كل في مكانه، وهنا وبطريقة عفوية واستجابة لا شعورية لهذه الشجاعة - حسبما قال عطوة - وجدت نفسي أحتضن عبدالناصر، أنا وأنور حافظ شريكنا في الخطة، وأخذت ألوح لمحمود عبداللطيف أن يتوقف عن الضرب، وكان يتسلق وقتها تمثال سعد زغلول المواجه لشرفة مبنى بورصة القطن، لكنه واصل إطلاق النار. حيث أطلق رصاصة أصابت كتف أحمد بدر سكرتير هيئة التحرير في الإسكندرية أردته في الحال، وأطلق بقية الرصاصات في النجف والصيني الموجود في السقف وأمام المنصة.
شاهد ملك
بعدها نزل الرئيس عبدالناصر وتوجه إلى جامعة الإسكندرية ليواصل خطبته، وفي هذه الأثناء تم توقيف عطوة وزميله أنور بواسطة البوليس الحربي، أما هنداوي الدوير المشرف على العملية عندما علم بفشل خطة اغتيال عبدالناصر ذهب كشاهد ملك إلى قسم باب شرق الإسكندرية وأبلغ عن المجموعة، وتم تقديمهم للمحاكمة العسكرية.
ووفق رواية خليفة عطوة: «عندما تم تقديمنا للمحاكمة العسكرية، وحكم علينا بالإعدام في 17 نوفمبر 1954، لكن تم تخفيف العقوبة عنا بعد أيام من صدور الأحكام في القضية، بعد نحو 15 يوما من السجن أبلغونا أن عبدالناصر أصدر قرارا بتخفيف العقوبة إلى 25 سنة، وبعدما أخبرونا بتخفيف العقوبة أخذوني أنا وأنور وفي أيدينا الحديد من السجن داخل «سيارة جيب»، فوجئنا بوقوفها أمام مبنى قيادة الثورة... دخلنا المبنى وسرنا في ممر طويل ووقفنا أمام غرفة، وأمرنا الضابط المرافق لنا أن ننتظر قليلا أمام الغرفة، ثم أمرنا بدخول غرفة شبه مظلمة ويوجد بها منضدة حولها كراسي ومكتب في أحد الأركان عليه أباجورة ضوؤها خافت، ولم يكن هناك بها سوى شخص يرتدي الزي العسكري يتفحص عشرات الصور أمامه، ولا ينظر إلينا ونحن واقفين أمامه».
وأضاف عطوة: «ظللنا على هذه الحالة لأكثر من 10 دقائق من الانتظار، إلى أن اكتشفنا أن الضابط الجالس على المكتب هو جمال عبدالناصر، وأخذ يسألنا عن أسمائنا.
وقال لنا: هل كنتما فعلا مكلفين باغتيالي؟ لقد قرأت أقوالكما في محاضر التحقيق وجلسات المحكمة، ثم سأل عن الدوافع الحقيقية للاشتراك في عملية اغتياله فكانت الإجابة بصوت مرتعش «يافندم فهمونا إنك خائن بتوقيعك معاهدة الجلاء»، وقال إنه ظل يستمع إليهما في صبر وسكون حتى النهاية.
إفراج
وعندما انتهيا بدأ في الكلام وحوله دوافعه من وراء توقيع الاتفاقية ، وبعد لحظات أمر بإحضار طعام لهما، وكان عبارة عن «سندوتشات فول وطعمية»، وتناولاه في ذهول، ووفق ما قاله عطوة إن عبدالناصر أمر الضباط بأن يأخذوهما وسارت السيارة في شوارع القاهرة، وكانا يظنن أنهما عائدان للسجن الحربي، لكن وجدا أنفسهما في محطة قطارات الزقازيق «85 كيلو مترا شرق العاصمة المصرية» وصاح بهما الضابط: انزل أنت وهو لقد أصدر الرئيس جمال عبدالناصر أوامره بالإفراج عنكما، وفي اليوم التالي خرجت الصحف تحكي قصتهما وخبر الإفراج عنهما، وكيف تحولا من مشاركين في محاولة اغتيال عبدالناصر إلى حماة له وتصديا لرصاصات زميلهما محمود عبداللطيف.
اعتكاف الهضيبي
قبل الحادث بشهر اعتكف مرشد الإخوان - آنذاك - الهضيبي، ولم يكن يعرف مكانه إلا القليلون، وقد فسر هو لناصر في رسالته بعد الحادث ذلك الاختفاء، بأنه كان خوفا من وقوع حوادث مؤسفة، وفسر المؤرخ يونان لبيب رزق ذلك بأنها لم تكن المرة الأولى التي يختفي فيها الهضيبي فقد كان يعتكف أو يختفي لكن عندما اختفى هذه المرة قالوا إنه كان يعرف أنه ستحدث عملية اغتيال عبدالناصر فاختفى.
وعن الخطاب الذي أرسله الهضيبي لجمال عبدالناصر قال الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل «الأستاذ الهضيبي بعث جوابا لجمال عبدالناصر كتبه له من القاهرة وهو جاي من الإسكندرية وبيقولوا فيه - قبلها كان بعت له جواب شديد جدا في شأن الجلاء، وفي شأن معارضة اتفاقية الجلاء - أنا مش مختفي ولا حاجة، وبيقول له: السيد جمال عبدالناصر رئيس مجلس الوزراء السلام عليكم الحمد لله تعالى أحمد الله إليكم وأصلي وأسلم على رسوله الكريم، وبعد، فقد وجدت نفسي في أثناء قدومي من الإسكندرية أمس محاطا بمظاهر توصي بأن الحكومة تتوقع قيام الإخوان المسلمين بحركة ربما كانت لأخذي عنوة وأنا أبادر فأقول إن ما تسميه اختفاء قد أدهشني وأنه - أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم - أنني ما علمت بوقوع جريمة الاعتداء عليك إلا في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، ولو كان لي بها علم وقد وقعت في نفس موقع الصاعقة لأني ممن يعتقدون أن الاغتيالات، تؤخر حركة الإخوان وتؤخر الإسلام والمسلمين، وتؤخر مصر، وقد كنا بحثنا هذه المسألة في الجماعة منذ زمن بعيد، واستقر رأينا على ذلك، وأخذنا نوجه الشباب».
اعتراف
اعترف محمود عبداللطيف بأنه هو الذي أطلق الرصاصات الثماني على عبدالناصر، كما تعرف على المسدس الذي عثر عليه بعد الحادث بأيام، وأمام محكمة الشعب - التي انشئت مع ثورة يوليو - قدم عبداللطيف اعترافات مفصلة بأن هنداوي الدوير رئيسه في التنظيم السري بإمبابة «منطقة شعبية تقع شمال غرب القاهرة» هو الذي حرضه على قتل عبدالناصر، وأنه سلمه المسدس قبل الحادث بيومين، وكان قد شرح له ولزميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبدالناصر أن اتفاقية الجلاء التي وقعها جمال عبدالناصر مع الإنكليز في 19 من أكتوبر 1954 هي خيانة للبلد.
أما هنداوي الدوير فقد سلم نفسه للشرطة صباح اليوم التالي، واعترف أمام محكمة الشعب أن إبراهيم الطيب، المسؤول عن التنظيم السري في القاهرة هو من أعطاه الأوامر، وسلمه المسدس، وأكد له أن الأوامر صادرة من المرشد ذاته، وداخل السجن تم عزل محمود عبداللطيف وهنداوي عن باقي الجماعة، وتلقيا معاملة مختلفة، وخاصة هنداوي. حيث يصف أحد شهود العيان أنه كان في - عزل تام - فقد وضع في زنزانة بمفرده، وكان يدخن سجائر في الزنزانة، وأن كل السجناء في السجن الحربي شاهدوه وهو يجلس في «جنينة صغيرة»، وأيضا كانوا يحضرون له الشاي، وكان يجلس معه الصحافيون الأجانب.
مش ده اللي اتفقنا عليه
وبعد محاكمة هنداوي ذكر سجين حربي رافقه - اسمه محمد فريد عبدالخالق - أنه سمعه وهو داخل القلعة مع اثنين من الإخوان، وكان يتحدث بصوت عال، وهيستيري، وكانت تلك الأيام مع اقتراب الحكم في القضية، وكان هنداوي في حالة ذهول فقد أصيب بخيبة أمل كبيرة، وسمع داخل المعتقل وهو ذاهب لزانزانته، وكان يقول بصوت عال «مش ده اللي اتفقنا عليه»، لأنه عندما سلم نفسه قيل له إنه بيلعب دور شاهد ملك، ولن تصدر ضده أحكام، لكن الأمر حدث عكس ما قيل له.
ووفقا لاعترافاتهم - هنداوي ومحمود عبداللطيف - كانت إمبابة هي مركز التنظيم السري بشكله الجديد، وفيها كان يسكن عبداللطيف وهنداوي وسعد حجاج، وعلي نويتو وأحمد نجيب وغيرهم، وكان بها أيضا ورشة عبداللطيف ومحل نجيب ومكتب هنداوي، كما أفادت اعترافات المنتمين إلى تنظيم إمبابة بأن التنظيم السري بشكله الجديد تكوّن خلال الاشهر الأربعة أو الخمسة التي سبقت الحادث، وجاء في اعترافات هنداوي بأن إمبابة استضافت الضابط الإخواني عبدالرؤوف بعد هروبه من محاكمته العسكرية في مايو 1954، وأنهم استفادوا من خبرته العسكرية، وأدخلوا تعديلا جديدا على التنظيم السري.
أما مذكرات عبدالمنعم عبدالرؤوف، التي نشرها بعد هروبه خارج مصر تسرد فترة اختبائه في إمبابة، ويؤكد فيها لقاءه بهنداوي ونويتو والطيب ويوسف طلعت ومحمد مهدي عاكف وغيرهم، وذلك ما سرده أيضا علي عبدالفتاح نويتو في أحد حواراته حيث قال: كان عندي عبدالمنعم عبدالرؤوف وكان عبدالناصر راصدا «5» آلاف جنيه لكل من يدل على مكانه. أما من يعرف ولا يدل على ذلك فإن رقبته سوف تقطع.
وكان عبدالرؤوف عندي وبقي عندي لمدة 15 يوما، في حين نجد ان إبراهيم الطيب قال: إن عبدالمنعم عبدالرؤوف بعدما هرب تولى الإشراف على الجهاز السري في الإخوان، ونزل في إمبابة في بيت هنداوي دوير - الذي كان يخطط لعملية اغتيال جمال عبدالناصر في المنشية - أي أنه شارك - بشكل أساسي - في عملية الاغتيال التي نفذت في المنشية، وكان المخطط الأول عبدالمنعم عبدالرؤوف.
أما المخطط الثاني فهو إبراهيم الطيب - الذي يتولى التنظيم في القاهرة - أما المخطط الثالث فهو هنداوي دوير- المحامي بمنطقة إمبابة - والذي يتولى تنظيم إمبابة - أما الشخصية الرابعة في التخطيط فهو محمود عبداللطيف، الذي كلف بعملية إطلاق النار على جمال عبدالناصر.
اعتقال الضباط الأحرار
اعترف هنداوي دوير بأن إبراهيم الطيب أبلغه قبل الحادث بـ «15» يوما أن التنظيم السري، قرر أن يعتدي على جمال عبدالناصر، ويتخلص من الضباط الأحرار باعتقالهم أو خطفهم، وأنه قد انتخب محمود عبداللطيف لهذه المهمة، واتخذ جمال عبدالناصر من حالة محمود عبداللطيف - محور الخطاب - الذي وجهه في ميدان الجمهورية بعد حادثة المنشية.
وفي 29 أكتوبر العام1954 خطب الرئيس جمال قائلا: «محمود عبداللطيف الرجل الفقير اللي إحنا بنعمل من أجله ونضيع وقتنا كله من أجله ومن أجل أولاده ومن أجل مستقبله ومن أجل مستقبل أولاده بنعمل جميعا عشان نزيح عنه الفقر وعشان نوفر لأولاده التعليم والصحة ومستوى معيشة أحسن من اللي إحنا ماقدرناش نتمتع بها، كان الهضيبي باسم الدين وباسم الإسلام يبث في نفسه الحقد ويبث في نفسه الضغينة ويبث في نفسه البغضاء».
وقد اعترف محمود عبداللطيف أمام محكمة الشعب بأنه غادر منزله صباح السادس والعشرين من أكتوبر فمر على زميله سعد حجاج المكلف الثاني بمحاولة اغتيال عبدالناصر، والذي أبدى أسفه لعدم تحضيره سلاحا فودعه محمود وسافر بمفرده، ويوم عادت المنشية ذكر محمد نجيب راغب أنه شاهد محمود عبداللطيف.
وقابله في الصباح الباكر قبل سفره، وكان مع نجيب راغب سعد حجاج، وقال سعد لنجيب: إنه ذاهب إلى الإسكندرية، وكان سعد يعرف أن نجيب سيذهب للإسكندرية، وأن المجموعة كانت مقسمة لكن معروف أن سعد دائما يذهب إلى أي مكان فيه جمال عبدالناصر، وكان كل فرد من المجموعة معه سلاح فكلهم كانوا مدربين ومعهم أسلحة لأنهم في نظام خاص.
إحالة على التقاعد
وفي ديسمبر من العام 1953 أحيل الضابط الإخواني عبدالمنعم عبدالرؤوف إلى التقاعد، ويقول إنه التقى الهضيبي وقتها، وأن الهضيبي كلف بتنظيم، وتدريب النظام الخاص، وكان الهضيبي على خلاف دائم مع رئيس النظام الخاص عبدالرحمن السلبي، وتصاعد الخلاف في ديسمبر 1953 إلى حد أن الهضيبي أقال السلبي و«3» من مساعديه منهم أحمد عادل كمال، وبعد الانفصال وبعد أن قبض على الإخوان عادوا يفكرون في عمل تنظيم سري ثان، وكان مسؤولا عنه يوسف طلعت، وقد رشحه محمد فرغلي، الذي زار عبدالناصر في مكتبه بوزارة الداخلية أواخر 1953، وطلب عبدالناصر منه أن يحل الإخوان التشكيلات السرية في الجيش، والشرطة، والجهاز الخاص.
فكرة عاكف
في حين نجد أن المرشد العام للإخوان - الآن - محمد مهدي عاكف يعترف أنه صاحب فكرة النظام الجديد، وهو نظام الفصائل كي يدربه الإخوان المسلمون في معسكرات الحرس الوطني بطريقة منظمة فتبقى كل شعبة عندها فصيلة وفية - كما قال في المحكمة - نظام سري يتكون من 40 فردا، وكنت أنا رئيس التنظيم وليس يوسف طلعت، أما يوسف طلعت فكان في التنظيم القديم.
وانتهت أحكام محكمة الشعب في قضية حادثة المنشية إلى الآتي: حكم على محمد مهدي عاكف بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم عنه إلى المؤبد، وقضى فترة السجن من العام 1954 حتى أفرج عنه في العام 1974، وحكم بالإعدام أيضا على الإخواني علي عبدالفتاح نويتو، ثم تم تخفيض الحكم عنه إلى المؤبد، وقضى فترة السجن من 1954 وحتى 1974، أما محمد نجيب راغب فكان الحكم عليه بالبراءة، لكنه قضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، وعلي أحمد عادل كمال أيضا قضت المحكمة بالبراءة، لكنه قضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، وعلي محمد فريد عبدالخالق حكم عليه بالسجن 10 سنوات مع إيقاف التنفيذ، وقضى سنتين رهن الاعتقال ثم أفرج عنه، كما واجه محمود عبداللطيف وهنداوي دوير حكم الإعدام.
ويعد حادث المنشية - احدى أكبر الجرائم والمحاكمات السياسية إثارة للجدل في تاريخ مصر الحديث - انتهت التحقيقات الرسمية وأغلقت الملفات، وأصدرت محكمة الشعب - التي شكلتها الثورة - أحكامها، فنجا من نجا وأعدم من أعدم وواجه المئات مصائرهم ما بين السجن والبراءة، وبالرغم من مضي أكثر من «50» عاما على تلك الحادثة،. لكن لايزال الخلاف قائما وعلى أشده حول حقيقة ما جرى.